بعض من صور المعاناة المعيشية للأسر السورية…والأرقام الرسمية تؤكدها بالدليل القاطع..!.

727

شارع المال.

“ماشيين الحيط الحيط ويارب السترة”، يقولها أبو محمود، وهو يرتب الكتب على ما يشبه طاولة “بلا دعائم” في زاويته التي اتخذها تحت جسر الرئيس في دمشق ليبيع ما يتيسر من كتب في العلوم والفنون والسياسة والاقتصاد، قبل أن يستدرك في الإجابة عن معيشته قائلاً: حتى السترة أصبحت “مرقعة” ككل شيء في حياتنا، فاليوم نرقع غذاءنا بالخبز حتى نشبع بأقل كمية، ونرقع لباسنا بما تيسر من أقمشة بالية، ونرقع الراتب التقاعدي ببسطة هنا وعتالة هناك، ونرقع بيوتنا المتهالكة بدعائم خشبية، مضيفاً: “حتى لحاف نمد اجرينا على قدّو ما عاد في!”، وكنا لنصمت ونرضى بحال مدينة خارجة من حرب لولا الاستفزاز اليومي بوعود وتصريحات يعرف الطفل الصغير استحالة تحقيقها، فلماذا التباهي ونحن في موطن عجز؟!

اختلاف

الرجل الستيني يعمل صباحاً بائع كتب على بسطة، ومساءً حارساً على بوابة أحد فنادق دمشق، يحدثنا عن الفروقات التي يلحظها خلال عمله: صباحاً، وفي أكثر مناطق دمشق ازدحاماً، ترى الجميع يبحث عن لقمة عيشه بشق الأنفس، فصخب الحاجة كفيل بالتغطية على أية مظاهر أخرى.. تنظر إلى البسطات فتجد من يساوم على خمسين ليرة، وتنظر إلى عشرات سيارات الأجرة الفارغة المصطفة بانتظار الانقضاض على من تبدو عليه القدرة لتحمل تكلفتها، فيما يتدافع العشرات على الطرف المقابل تجاه بوابة باص أو سرفيس راضياً بالوقوف، ولو على قدم واحدة! يتابع أبو محمود: أما مساءً، خلال عملي في فندق وسط العاصمة، فتختفي تلك المظاهر ويخبو ضجيج العمل ليستعاض عنه بـ “تشفيط” السيارات الفارهة والموسيقى الكلاسيكية التي تصدح من الفنادق والمطاعم، والأغاني المبتذلة في حفلات هنا وهناك، وكأنها مدينة مختلفة.. ليل دمشق لم يعد كصباحها، وكلما ازداد أهل الصباح فقراً كلما زاد رواد ليلها ثروةً وبطراً.

هم قالوا.. ونحن رأينا!

يقولون: سندعم الإنتاج، فنرى الضرائب والبيروقراطية “تطفش” كل من يجرؤ على التقدم!

يقولون: سنكافح التهريب، فترى أسواق المهربات تزداد انتعاشاً، وثروات سورية الحيوانية تهرب يومياً بالآلاف!

يعلنون عن مبادرات لدعم الليرة فيرتفع سعر الدولار لأكثر من 750، لأول مرة في تاريخه!

يشنون حملات رقابية على الأسواق، فيخالف البائع الصغير وينسى التاجر والصناعي الكبير!

يقولون: سندعم التصدير، ونرى كل يوم مادة جديدة تضاف على قائمة المستوردات!

يهددون بمكافحة الفساد فيتدافع الفاسدون للـ “بروظة”، والتظاهر بالحرص على معيشة المواطن!

كثيرة هي المفارقات التي تميز المشهد الاقتصادي والمعيشي اليوم، وكلها تصب في خانة التشوش والضياع، فالواقع المعاش في واد والأرقام والإنجازات الرسمية في وادٍ آخر؛ وكلما تباهت المؤسسات باستراتيجياتها بعيدة المدى، كلما ازددنا قناعةً بأنه لا حلول آنية تخفف العبء الذي أثقل كاهل الكبير والصغير، واليوم نحن أمام شتاءٍ قاسٍ آخر على جميع المقاييس، فتقنين الكهرباء بدأ، وأزمات الغاز والمازوت استبقت الضغط لتبدأ باكراً هذا العام، والمعنيون يتسولون التعاطف كاشفين عجزهم الكامل عن أي حل، ولو “ترقيعي”، على شاكلة حياة المواطن الذي ضاقت به السبل، ولم يعد يطمع بأكثر من “السترة”.

كول وشْكورْ!!

في آخر مسح أجراه المكتب المركزي للإحصاء، ظهر أن نسبة غير الآمنين غذائياً بلغت 28,7%، أعلاها في حماة بنسبة 53%، والقنيطرة 46%، وحلب 36,6%، أما المعرضون لانعدام الأمن الغذائي فنسبتهم 38,1%، ونسبة الآمنين غذائياً لم تتجاوز 33%، أكثرها في دمشق؛ وبات جل اهتمام الأغلبية العظمى الحصول على كفاف يومها، فمردود أية عائلة مكونة من موظفين اثنين سيكون بمعظمه لتوفير الطعام وحسب، وهو ما أثبته مسح المركز الذي بيّن أن 58,5% من الإنفاق يذهب للغذاء، و41,3% منه على السلع والمواد غير الغذائية؛ وعندما نتحدث عن الغذاء، فهذا بالكاد يتضمن الأساسيات من الخبز والزيت والحبوب والخضار، فلا مجال للرفاهيات عند الأغلبية العظمى، حتى أن اصطحاب الأطفال للتسوق بات عبئاً على الآباء حتى لا يتمادوا في رغباتهم بالحصول على “البسكوتة” والشوكولا!

ولكن!

في المقابل، تكاد لا يخلو سوبر ماركت من أصناف غذائية مبالغة في الرفاهية، وهي طبعاً مهربة “عينك عينك!”، وتباع على مرأى من الجميع في أرقى المولات والماركات، فهناك طبقة لابأس بها لا يمكن أن تستغني عن كماليات المائدة ليبقى البريستيج بأبهى حلة؛ ويبدو أن هذه الطبقة – التي تسارع الحكومة لتصديرها على أنها الوجه الجميل لسورية بعد الحرب – هي المتحكم الأول في السوق، فلا مشكلة إن فقد الطحين أو ارتفع ثمن الزيت والسمن والأرز، ولكن معاذ الله أن يفقد السيجار والكافيار وأنواع الأجبان الفاخرة، وبدل أن ينصب اهتمام الحكومة على دعم المزارعين والمنتجين – كما تنادي ليل نهار! – نجدها مثابرة على تشجيع المولات والمطاعم والثناء على أصحابها الغيورين على سياحة البلد!

وعود رخيصة

يستنكر كثر الصمت الحكومي والرسمي والخاص إزاء انخفاض قيمة الليرة وارتفاع أسعار جميع المواد في الأسواق، إلا أن هناك شريحة واسعة ترى أن في هذا الصمت – وفي ظل القناعة “الناجمة عن خبرة طويلة” بأن الوعود لن تتحول أفعالاً – استراحة جيدة من التصريحات والتحليلات التي تحولت إلى كليشيهات، مستهلكة حد الإعياء، “يلوكها” الناس لفترة، قبل أن يبصقوها على واقعهم الرديء، ويتابعون بحثهم عن حياةٍ كريمة خارج أسوار الإنجازات الخيالية.

الشهباء – ريم ربيع