هل يؤدي إصدار عملة جديدة إلى تثبيت سعر الصرف، وكبح التضخم..؟

639

شارع المال.

تعليقا على المرسومين الجمهوريين 3 و4، للعام 2020، استبعد بعض الأكاديميين أن تلجأ سورية لتغيير عملتها، عاجلا أم آجلا؛ واستند هؤلاء إلى سبب جوهري ومنطقي وهو أن العملة السورية لا تعاني من “الأصفار” (كما كان حال الدول التي غيّرت عملتها).. وهذا صحيح، لكن هناك دولا غيرت عملتها لأسباب أخرى دون أن تكثر الأصفار على “يمينها”. وإذا عدنا إلى العقود الماضية، سنكتشف أن هناك الكثير من الدول التي لجأت لتغيير عملتها لأسباب مختلفة، وحصد أغلبها نتائج مثمرة انعكست سريعا على اقتصادها الوطني.

ولا نقصد هنا بتغيير العملة إصدار شكل جديد لبعض فئاتها، أو كلها، أو إصدار فئات بقيمة أعلى يضاف إليها صفر واحد أو أكثر، وإنما اعتماد عملة جديدة معترف بها عالميا بسعر صرف ثابت جديد أمام القطع الأجنبي، كما حدث في دول اوروبية وأمريكية وعربية. وفي سورية، قامت الحكومات المتعاقبة بتغيير شكل جميع فئات أوراق عملتها الورقية والمعدنية، وأصدرت فئات بقيم أعلى، ولكنها لم تلجأ لإصدار عملة جديدة كليا تلغي القديمة.

السؤال المهم

ويتجنب الجميع تقريبا الإجابة على السؤال المهم: هل من جدوى لتغيير العملة السورية، أي إصدار جديد لها يلغي المتداول منها حاليا بعد زمن محدد يكفي لاستبدال القديم منها بالجديد؟

بما أن سورية مقدمة على عملية لإعادة الإعمار، لا سابق لها في العالم منذ الحرب العالمية الثانية،

وبما أن عجلة الإنتاج الصناعي والزراعي بدأت بالدوران، وبسرعة تتزايد عاما بعد عام، وبما أن الليرة السورية تعرضت – ولا تزال – لحرب ممنهجة لإضعاف قدرتها الشرائية، ولا أحد يعرف الكميات المزورة منها في الخارج، وتحديدا في دول الخليج، وبما أن عملية تثبيت سعر صرفها امام القطع الأجنبي تحول إلى عملية معقدة جدا.. أمام كل هذه المعطيات، نسأل: هل من جدوى لإصدار عملة جديدة تقلب الأوضاع السائدة رأسا على عقب، وتخلط حسابات الخونة والمتآمرين والمضاربين والمهربين.. والفاسدين؟

تغيير العملة

إن فعلتها سورية بعد انتصارها النهائي على الحرب الإرهابية، وبعد انطلاق عملية إعادة الإعمار رسميا، فإنها لن تكون استثناء في هذا المجال، فقد سبقتها دول كثيرة حققت الكثير من النتائج الاقتصادية المباشرة، ومن هذه الدول:

الهند التي ألغت، في العام 2017، التعامل بعملات من الفئات الكبيرة تمثل أكثر من 80% من العملة المتداولة، وكان الهدف المعلن القضاء على الفساد والتهرب الضريبي وتنظيف البلاد من الأموال السوداء.

فنزويلا التي كانت من أغنى دول أميركا اللاتينية حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي. لكن، وبفعل التدخل الأمريكي، تراجع اقتصادها، وارتفع فيها معدل التضخم ليصل إلى 400%، واضطرت حكومتها إلى طبع العملة دون رصيد، وخسر “البوليفار” أكثر من 60% من قيمته في شهر واحد (تشرين الثاني 2016)، في السوق السوداء.

تركيا حيث وصل سعر صرف الليرة، العام 2005، إلى أكثر من 1.5 مليون للدولار، فقررت حينها الحكومة استبدال العملة القديمة، وطرحت بدلا منها عملات جديدة خالية من الأصفار، ومنحت المواطنين فترة 10 سنوات لاستبدال عملاتهم.

إزالة الأصفار

لقد لجأت دول كثيرة إلى اتخاذ قرار بإلغاء الأصفار من عملتها لكنها لم تنجح جميعها بتحقيق هدفها، لأن عملية إزالة الأصفار ستفشل إن لم يرافقها استقرار في الاقتصاد الكلي وانخفاض بمعدلات التضخم واستقرار في سعر الصرف.

وقد تم تسجيل 70 حالة حذف أصفار من العملات منذ العام 1960، فقد تخلصت 19 دولة من الأصفار في عملاتها المحلية مرة واحدة، فيما لجأت 10 دول لمثل هذه الخطوة مرتين، بل إن الأرجنتين لجأت إلى إزالة الأصفار 4 مرات، ويوغوسلافيا السابقة (صربيا) 5 مرات، وبوليفيا مرتين، وأقدمت كل من أوكرانيا وروسيا وبولندا على هذا الإجراء 3 مرات، بينما نفذت تركيا وكوريا الجنوبية وغانا تلك الخطوة مرة واحدة فقط.

وتعد البرازيل من أبرز الحالات التي شهدها العالم بإلغاء الأصفار وتغيير اسم العملة، ومع ذلك لم تنجح في كبح التضخم، الذي وصل إلى 2000%، ووقف الارتفاع الحاد بمؤشر أسعار المستهلكين، إلا في العام 1993، من خلال التخلص من ثلاثة أصفار من عملتها الجديدة.

ولم تنجح فنزويلا بكبح التضخم رغم خفض عدة أصفار من عملتها. وفي العام 2018، أصدرت عملة جديدة ألغت من خلالها خمسة أصفار في ظل أزمة إقتصادية حادة.

وبفعل العقوبات الغربية وبخاصة الأمريكية التي تعرضت لها، أعلنت إيران، في العام 2018، اعتزامها إزالة أربعة أصفار من قيمة عملتها المحلية “الريال” في العام الحالي. وتخطط إيران، من خلال هذا القرار، لكبح التضخم وتراجع سعر الصرف، كما تخطط لتغيير اسم عملتها إلى “التومان”، وهي الوحدة السابقة التي كانت في التداول حتى عام 1925.

تغيير شكل العملة

كما تنتشر ظاهرة تغيير شكل العملة في العالم بكثرة، وقد قامت دول عديدة مثل الهند وفنزويلا وتركيا والأرجنتين والبرازيل واستراليا وتركمانسـتان وانجلترا والمغرب بمثل هكذا تغيير. ولقد تمكنت الهند، مثلا، بعد تغيير شكل عملتها من القضاء على الفساد والتهرب الضريبي وتنظيف البلاد من الأموال السوداء.

والسؤال الآن: هل يدرس المصرف المركزي جدوى تغيير العملة الوطنية، أم أنه يكتفي بدراسة جدوى إصدار ورقات نقدية كبيرة؟

نتائج متوقعة

نحن لا نقول بإصدار عملة سورية جديدة سريعا، بل نسأل: لماذا لا يناقش مثل هذا المقترح مثلما تناقش الجهات المعنية إصدار اوراق نقدية كبيرة في المستقبل؟ ألا تعتبر الورقة النقدية الكبيرة، كما حصل مع فئة الـ 2000 ليرة، إصدارا جديدا؟ ولماذا تغير الدول عملتها الوطنية؟

الأسباب كثيرة: انتشار التزوير، وتداول العملة الوطنية في السوق السوداء، وارتفاع التضخم بمعدلات لا يمكن التحكم بها، وانخفاض العملةأمام القطع الأجنبي، وتهريب الأموال إلى الخارج في حالة الحروب.

ولاشك أن هناك سلبيات وإيجابيات لتغيير العملة الوطنية: أبرز الإيجابيات: جذب مدخرات المواطنين إلى المصارف الوطنية، وأبرز السلبيات تحويل مدخرات المواطنين إلى القطع الأجنبي.

تثبيت سعر الصرف

قد يكون أبرز أهداف إصدار عملة جديدة هو تثبيت سعر الصرف أمام القطع الأجنبي لكبح التضخم، والقضاء على السوق السوداء. وهذا ما حصل في جميع الدول التي غيرت عملتها. والبلدان التي نجحت في ذلك هي التي تتمتع باقتصاد متنوع، وطبقت سياسات تناسب مواردها، وتمكنت من التحكم بالتضخم وبمؤشرات أسعار السلع ومراقبة السيولة المتداولة، أما الدول التي فشلت فهي التي تعتمد على اقتصاد ريعي، كالنفط فقط، وتعاني من دين عام كبير، وتستمر بالاقتراض من مؤسسات المال الغربية، وبالتالي استمر فيها التضخم وارتفاع الأسعار وزيادة المستوردات.

وفي سورية، الوضع مختلف فاقتصادها متنوع، وهي مهيأة للاكتفاء الذاتي وتحقيق فائض للتصدير، أي قادرة، بعد استتاب الأوضاع ودوران عجلة الإنتاج وانطلاق إعادة الإعمار، على تحقيق معدلات نمو عالية.

وفي هذه الظروف، فإن إصدار عملة جديدة لن يكون بهدف إلغاء الأصفار، وإنما تثبيت سعر الصرف من خلال:

– منح مهلة لاستبدال العملة القديمة، وهذا سيتيح للدولة اكتشاف السيولة المتداولة داخل سورية لأن من يمتلك عملة مزورة لن يجرؤ على تبديلها، وإلا تعرض للاعتقال.

– تكبيد المضاربين – الذين استبدلوا الملايين بالقطع الجنبي لتحقيق أرباح فاحشة – خسائر جسيمة تُفقدهم ما بين 50% إلى 90% من قيم أموال المضاربة حسب سعر الصرف الجديد.

– إلزام من يقوم بتبديل مبالغ كبيرة بوضعها في حسابه المصرفي مدة لا تقل عن عام، وهذا يعني فتح حسابات لجميع السوريين، ما يتيح تعميم الدفع الإلكتروني وإجراء معظم التعاملات التجارية عبر المصارف، وهذا سيتيح للحكومة الـتحكم بالنقد الورقي المتداول ويؤدي حكما إلى القضاء على المضاربة بالليرة.

وخلال فترة تبديل العملة ستختفي السوق السوداء للمتاجرة بالقطع الأجنبي وتنحصر بالمصارف وشركات الصرافة.

مهربون وفاسدون وجامعو أموال

إضافة إلى تثبيت سعر الصرف، فإن تغيير العملة سيكشف المهرببين والفاسدين والمضاربين وجامعي الأموال، وأعدادهم وإن كانت قليلة إلا أن تأثيرهم كبير وضار جدا على العملة الوطنية والاقتصاد الوطني. وما حدث مؤخرا مع جامع الأموال، زاهر زنبركجي، الذي ألقت السلطات الأمنية القبض عليه وبحوزته عشرات الملايين التي جمعها من المواطنين, ليس سوى مثال ودليل على وجود كثر غيره من جامعي الأموال الذين سيضطرون إلى رد الأموال إلى أصحابها، لأنها ستتحول إلى نقد بلا قيمة بعد فترة قصيرة من الزمن؛ كما سيكتشف المضاربون أنهم غير قادرين على التحكم بالسوق السوداء، فإلى جانب العقوبات الجديدة التي ستطالهم سيضطرون لاستبدال ملايينهم التي يضاربون بها، ووضع معظمها في حسابات مصرفية مراقبة بشكل دقيق جدا. أما الضربة الأكبر فستكون لأصحاب رؤوس الأموال السورية في الخارج، وتحديدا في دول الخليج، والذين لعبوا – ولا يزالون – دورا تخريبيا في استهداف الليرة السورية.

لقد سبق لنائب اقتصادي سابق أن كشف أن حكومات أنظمة الخليج كانت تجمع ملايين الليرات السورية سنويا، وترسلها إلى الحكومة السورية خلال السنوات التي سبقت إعلانهم الحرب على سورية، لكنها خلال سنوات الحرب استثمرت هذه الملايين ضد الاقتصاد السوري. وسيكون امام أصحاب ملايين الليرات السورية في الخارج، بعد قرار إصدار عملة جديدة، إما تبديلها ووضعها في حساب مصرفي في سورية، أو حرقها؛ وفي الحالتين تكون الحكومة قد قضت على أداة مهمة من أدوات المضاربة على الليرة.

ولعل قرار إصدار عملة جديدة سيكون صدمة للفاسدين لأنه سيضعهم في مأزق ليس في الحسبان..

صحيح أن متنفذين كبارا سابقين، وبعض الحاليين، قد حولوا أموال الفساد إلى دولارات هربوها إلى الخارج، لكنهم لايزالون يحتفظون بالملايين في خزائنهم، تماما كجامعي الأموال، لأن شفطهم للمال العام لم – ولن – يتوقف قبل اعتقالهم بالجرم المشهود، وسيكون الفاسدون ونعني بهم الذين شغلوا مواقع حكومية – أو لايزالون يشغلونها – أمام خيارين: إما المغامرة بتبديل ما لديهم من أموال الفساد مع المخاطرة بسؤالهم “من أين لك هذا؟”، أو توزيعها على الأقارب والمعارف لتبديلها، ولكن هذا سيعني وضع معظمها في حسابات مصرفية بأسمائهم الصريحة.

وقد يلجأ الفاسدون إلى تجييرها لمضاربين لقاء عمولة كبيرة. وفي جميع الحالات سيكون مصير القسم الأكبر منها في المصارف، لأن أصحابها لن يعود بمقدورهم تحويلها إلى قطع أجنبي.

مختصر مفيد

مهما كانت تجارب الدول التي سبقتنا بتغيير عملتها، فإن إصدار عملة جديدة في سورية – بعد استقرار الأوضاع الأمنية ودوران عجلة الإنتاج واستئناف عمليات ضخ النفط من الآبار القديمة أو الجديدة وبخاصة من مياهنا الإقليمية، وبعد انطلاق إعادة لإعمار، سيؤدي إلى تثبيت سعر الصرف، وكبح التضخم، واستقرار مؤشرات الأسعار، والقضاء على تهريب أموال الدولة إلى الخارج، والأهم أن إصدار عملة جديدة سيجتث المضاربين ويربك المهربين ويفضح الفاسدين، والأكثر أهمية أنه سيتيح أتمتة التعاملات التجارية مثل بقية دول العالم!!

والسؤال: هل ستفعلها الحكومة خلال الأمد المنظور، وتصدر عملة جديدة؟

الشهباء – علي عبود