تعميم ثقافة العمل الحر يرتبط بتغيير الذهنية السائدة الاقتصاد المنزلي يفرض نفسه كخيار لا بد منه لتخفيف الأعباء المعيشية

376

شارع المال|

لعل الاقتصاد المنزلي أضحى أبرز خيارات الأسر السورية التي باتت بأمس الحاجة لتدبير أمورها المعيشية، ولاسيما في ظل تدني الدخل إلى مستويات غير مسبوقة، لا يمكن معها بأي شكل من الأشكال مجاراة أبسط متطلبات العيش. وإذا ما نظرنا إلى الاقتصاد المنزلي من زاوية أنه فرع من فروع الاقتصاد ككل – وفقاً لما يؤكده أهل الكار – وإذا ما علمنا أيضاً أن حُسن إدارة الأخير تنعكس بالضرورة على نجاح مؤسسات الدولة من خلال استثمار الموارد وضبط النفقات، يمكننا عندها إسقاط ذلك على التدبير المنزلي، وترسيخه كنهج لا بد منه لإدارة شؤون المنزل كمؤسسة لها مداخيلها وعليها نفقاتها.

وفي ذات السياق، يعدُّ العديد من المراقبين أنه إذا ما تم إدارة العلاقة بين النفقات والمصروفات المنزلية، فإن الأسرة يمكن أن تحصل على مستوى معيشي أفضل، أو يمكن لها أن تخفف من بعض متطلباتها غير الضرورية لصالح نظيراتها الأكثر ضرورة، خاصة في المرحلة الراهنة ذات التداعيات غير المسبوقة لجهة الضغط المعيشي وعدم التكافؤ بين الدخل والنفقات.

شق إداري

لدى حديث مدير عام هيئة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، إيهاب اسمندر، عن أهمية الاقتصاد المنزلي كنهج لابد منه لإدارة النفقات على مستوى الأسرة، لفت إلى حيثية جديرة بالاهتمام، مفادها أن ثمة سلوكيات منزلية تندرج تحت الشق الإداري لهذا النهج، كحُسن استخدام الأجهزة المنزلية المستهلكة للطاقة الكهربائية، وحُسن استخدام المواد الغذائية التي تستهلكها الأسرة من خلال الاعتماد على التصنيع المنزلي، بدل الغذاء الذي يتم شراؤه من السوق، مشيراً إلى أن الأمر لا يقف عند حدود تخفيف النفقات، إذ يمكن للأسرة – في حال تمكنت من إدارة شؤونها – إيجاد عملية إنتاجية لتحسين دخلها، على أقل تقدير.

بالطبع، لم يغفل اسمندر أهمية الجانب الإنتاجي للاقتصاد المنزلي، فهو كفيل بأن يوفر للأسرة دخلاً إضافياَ يساعدها على تحسين ظروفها، وبأبسط التكاليف، وأحياناً بدونها، وخاصة الأعمال التي تتطلب مهارات وحرفية مكتسبة بحكم العمل المنزلي اليومي، وبعيداً عن الآلات وخطوط الإنتاج، كأعمال الخياطة والتطريز، والأعمال المتعلقة بتصنيع الغذاء في المنزل وبيعه للمنازل المجاورة أو للمطاعم أو مراكز البيع.

وإذا ما حاولنا التعمق بالحديث عن الاقتصاد المنزلي ودوره كرافعة حقيقة للدخل، نجد أن بالإمكان إقامة مشاريع متناهية الصغر ذات التكاليف البسيطة نسبياً، وهنا يوضح اسمندر أن إقامة مشروع تصنيعي متناهي الصغر، كصناعة المنظفات التي يمكن الاستفادة منها من المساحة المتاحة في المنزل، وهذا الأمر موجود في سورية، مبيناً أن آخر إحصاء للمشاريع الصغيرة والمتوسطة سجل أن حوالى 6% من المشروعات التي تم مسحها هي مشروعات منزلية متناهية الصغر كتصنيف منطقي بعض النظر عن التعاريف القائمة حالياً في سورية بسبب الاختلالات التي نجمت عن تحديات المرحلة الاقتصادية وظروف التضخم، وما شابه ذلك، لكن في إطار المنطق هي مشاريع تدخل بطريقة أو بأخرى ضمن حالة الاستفادة من المساحات المتاحة في السكن المنزلي، وبالتالي فإن 6% من المشروعات في سورية تستفيد من المنازل لتأمين منتجات تستفيد منها الأسرة.

غير قابلة للتطور

وأشار اسمندر إلى أنه – وبشكل عام – عادة ما تندرج المشاريع المنزلية في إطار المشاريع التي تعد غير قابلة للتطور، لأن إمكانية زيادة الأيدي العاملة فيها وزيادة رأس مالها وتوسع حجمها تواجه تحديات كبيرة لأنها دائمة المحدودية ضمن إطار المنزل، لافتاً إلى أنه وبالرغم من كل ما تقدمه من خيار جيد للأسرة وتحسين ظروف معيشتها، إلا أنها لا تعد مشروعات قابلة للتطور؛ وفي حال كانت هناك نية لتطويرها، فيجب نقلها من المنزل إلى أماكن أخرى كجزء من مبنى في مكان آخر، أو كمبنى مستقل.

فرع اقتصادي

رغم أن المشروع المقام في المنزل يتقاطع مع الاقتصاد المنزلي لجهة تأمين الدخل للأسرة، إلا أنه لا يمكن حصر المشروعات المنزلية بالاقتصاد المنزلي، وذلك نظراً لأن الاقتصاد المنزلي هو العلاقة الرابطة ما بين مداخيل الأسرة ونفقاتها. وهنا يوضح اسمندر أن إدارة هذه العلاقة وتنظيمها بالحدود المثلى يؤمن للأسرة أكبر قدر ممكن من متطلبات معيشتها بأقل تكلفة ممكنة، فالاقتصاد المنزلي هو فرع اقتصادي مهمته إدارة العلاقة ما بين مداخيل وموارد الأسرة ونفقاتها للحصول على إشباع أفضل احتياجات الأسرة، وبأقل تكلفة ممكنة، ففي حال استبدلنا الطعام الجاهز من السوق بآخر نعده في المنزل سوف نقتصد، لاسيما إذا ما علمنا أن سعر الوجبة الواحدة لا تقل عن خمسة آلاف ليرة سورية.

يسيل لها اللعاب

يقودنا الحديث عن الاقتصاد المنزلي، كخيار لابد منه في هذه المرحلة للتخفيف من الأعباء المعيشية الضاغطة، إلى الإشارة إلى أن ذهنية باحث عن عمل لم ترتق بعد لمستوى طموح العمل الحر وامتلاك مشروع خاص يدر عليه قوت يومه مبدئياً، ويطوره لاحقاً ليولد فرص عمل جديدة للغير، فوظيفة الدولة لا يزال يسيل لها لعاب معظم خريجينا، حتى من ذوي الاختصاصات العليا، لاعتبارات تتعلق بغياب ثقافة العمل الحر، وعدم الثقة بقطاعنا الخاص الذي لا يتوانى عن تسريح عمالته مع أدنى اهتزازة يتعرض لها؛ وبالتالي يجدر بالحكومة الاضطلاع بتغيير هذه الذهنية عبر برامج وآليات ترسخ مفهوم المشروع الخاص الصغير والمتناهي الصغر، وتقدم الدعم اللازم مادياً ولوجستياً. ومع يقيننا بأن الموضوع يحتاج إلى جهود لا يستهان بها، ووقتاً ليس بالقليل، ولكننا بالوقت نفسه على قناعة تامة أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فلا ضير على سبيل المثال أن تربي الأجيال اللاحقة على تبني رؤية مستقبلية، كل حسب ميوله ورغباته، وأن توجه مناهجنا التربوية – خاصة في المرحلة الإعدادية والثانوية – طلابنا نحو تحقيق الذات عبر تحقيق طموحاتهم في فضاء العمل الحر بعيداً عن مفاصل القطاع العام، وتعريفهم بالفرص المحتملة بعد سنوات تعليمهم، وأن العمل لا يقتصر فقط في وظيفة الدولة.

غير مشبع

مؤكد أنه لا توجد طريقة مثلى للقضاء على البطالة وتأمين فرص عمل بالمطلق، ولكن على الحكومة أن تضع بعين اعتبارها أن اعتمادنا لاقتصاد السوق الاجتماعي يفرض عليها التخلي عن دورها الأبوي المباشر، وأن تكون بالدرجة الرئيسة موجهة لجميع مفاصل وفعاليات المجتمع، ولا تتوانى عن تقديم ما يلزم من تسهيلات إدارية وتمويلية بغية امتصاص ما أمكن من بطالتنا، ويتأتى ذلك من خلال تهيئة مناخ استثماري فاعل يتناسب واقتصادنا الوطني من جهة، وطبيعة وكفاءة كوادرنا الشابة من جهة أخرى، ولعل أبرز ما يجب التركيز عليه في هذه المرحلة هو المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، أكثر من نظيراتها المتوسطة والكبيرة، فهي حديث العصر ومجال خصب للاستثمار، خاصة في سورية كونه قطاعاً غير مشبع وغير مكتمل إلى الآن، ولكنه للأسف لم يلق الدعم الكافي.

لا شك أن ملف “تأمين فرص عمل” يشكل تحدياً دائماً لأعتى حكومات العالم التي لم تستطع قط القضاء على البطالة لدى شعوبها بالمطلق، فهي بأحسن الأحوال يمكنها تخفيض مؤشراتها نسبياً، ولكن المثابرة على هذا الملف من شأنها أن تحد من البطالة إلى أدنى مستوياتها، وعلى اعتبار أن المشروعات الصغيرة أحد أهم العوامل الكفيلة بهذا الموضوع، وعلى الحكومة ألا تدخر جهداً لتأمينها.

ثقة مهزوزة

تجدر الإشارة، أخيراً، إلى أن الثقة بالقطاع الخاص لا تزال مهزوزة من جهة ضمان حقوق العاملين وعدم تسريحهم، خاصة أوقات الأزمات، وهذا لا ينطبق على قطاعنا الخاص فحسب بل في جميع دول العالم، ولعل أزمة 2008 العالمية خير دليل، إذ لم تجد كبرى الشركات العالمية مناصاً من تخفيض عدد عمالتها، مع فارق يتمثل بمستوى تدخل حكومات الدول المتأزمة والوقوف بجانب المسرحين عبر إعطائهم ما يسمى تأمين البطالة ريثما يتم تأمينهم في عمل آخر من جهة، ومدى إعطائهم حقوقهم من قبل شركاتهم من جهة ثانية. وبإسقاط هذا الأمر على سورية، يتبين أن جلّ شركاتنا الخاصة لا تفتقر إلى وسائل وسبل التملص مما يترتب عليها تجاه عمالها من حقوق، خاصة وأن قانون العمل رقم 17 لعام 2010 جاء لصالح أرباب العمل أكثر من العمال، ما يعني أن الحكومة ليست بجانبهم كما يجب.

“البعث الأسبوعية” ــ ديانا رسوق