لا حديث عن حلول للتضخم بغياب الإنتاج.. تعقيد المشهد لا يعني استحالة اجتراح المعالجات!

لا حديث عن حلول للتضخم بغياب الإنتاج.. تعقيد المشهد لا يعني استحالة اجتراح المعالجات!

20

شارع المال|

لاشك أن الوضع الاقتصادي في سورية معقد إلى أبعد الحدود، لكن هذا التعقيد لا يعني استحالة اجتراح الحلول والمعالجات، فإذا ما شخصّنا الواقع الاقتصادي سرعان ما يبرز لدينا تحديان أساسيان يستوجبان الاشتغال عليهما، يتمثلان بـ”تعزيز الإنتاج” و”معالجة التضخم”!

أيهما أولى؟

ففي وقت تتضارب فيه الآراء حول حظوة أي هذين التحديين بأولوية المعالجة، لا بد من الإشارة إلى أن معالجتهما لا تقع على عاتق الحكومة فقط، بل يشاطرها بذلك قطاع الأعمال الذي طالما اتخذته شريكاً إستراتيجياً لها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بحيث تقوم “الحكومة” بالتخطيط الاستراتيجي ضمن رؤية واضحة تأخذ بعين الاعتبار أسباب المشكلة الاقتصادية المركبة وما تتضمنه من مؤشرات “سلبية كانت أو إيجابية”، وما قد تفضي إليه من نتائج، وتحدد ضمن هذه الرؤية مسار “قطاع الأعمال” ولاسيما لجهة اضطلاعه بالعملية الإنتاجية وتشرف عليه وتضبط حركته ونشاطه الاستثماري والتجاري حتى لا يخرج عن القوانين والأنظمة النافذة، ولا يقع -في بنفس الوقت- في مطب الطفل المدلل ويتحول تدريجياً إلى طفيلي جبان، وبذلك يكون عمل كلا القطاعين متوازنا بموجب معادلة تخول كل قطاع أن يقوم بدوره المنوط به!

لا يزال تعويل قائماً

رغم أن أداء قطاع الأعمال لم يكن بالمستوى المطلوب خاصة خلال هذه الفترة العصيبة من الأزمة الاقتصادية –إلا في حالات استثنائية جداً ربما-، إلا أن ثمة  تعويل رسمي على أن يأخذ دوره كشريك حقيقي بالتنمية، وأن يعي أن القوام الرئيس للنهوض بالاقتصاد الوطني هو “رأس المال الوطني وليس الأجنبي”، وهنا يبرز التساؤل هل يشكّل التضخم عائقاً أمام الاستثمار وبالتالي يحد من تفعيل عجلة الإنتاج؟ أم أن الاستثمار هو الخيار الأمثل لمعالجة التضخم؟

يرى الباحث الاقتصادي إيهاب اسمندر أن المعالجات الاقتصادية الصحيحة يجب ألا ترتكز على ظاهرة اقتصادية بعينها دون النظر إلى بقية الظواهر الاقتصادية ومختلف العوامل التي تؤثر بها، فعندما يكون هناك معدلات تضخم جامحة في أي اقتصاد كان، يحجم المستثمرون عن العمل، لأنهم يعتبرون أن معدلات التضخم تفقدهم القدرة على التسعير والبيع بشكل سليم في السوق، وتكون النتيجة نقص في الإنتاج، ونقص الإنتاج يعني أن الكتلة النقدية المطروحة في السوق ستصبح أكبر من الكتلة السلعية، وهذا يقود إلى تضخم من جديد، وبالتالي فإن المطلوب هو إجراء تحليل اقتصادي كلي للاقتصاد السوري من قبل خبراء ومتخصصين “لا يمنع أن يكون منهم غير سوريين”، يقومون بتوصيف أوجاع الاقتصاد السوري بطريقة علمية، ومن ثم يتم من قبل هؤلاء وضع خطة إصلاحية شاملة للوضع الاقتصادي تأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن “قصير – متوسط – بعيد”.

وأوضح اسمندر أن أحد أهم أسباب التضخم لدينا هو النقص الكبير بالإنتاج السلعي الذي أدى إلى فجوة اقتصاد حقيقي، أي أن الطلب على السلع أكبر من المعروض  منها، يضاف إليها ازدياد المستوردات المترافق مع ارتفاع أسعار المستوردات في دول المنشأ ما انعكس بالضرورة على ارتفاع الأسعار في سورية، كما أن هناك أسباب سياساتية كاعتماد سياسة تمويل المستوردات عن طريق المنصة، فضلاً عن التضخم الناجم عن عوامل ارتفاع تكاليف حوامل الطاقة التي ارتفعت على المستوى المحلي أكثر من مرة، وانعكاس ذلك على ارتفاع تكاليف الإنتاج.

الحسم لصالح الإنتاج

حسم المصرفي الدكتور علي محمد أولوية المعالجة للإنتاج، معتبراً أن “لا حديث عن حلول للتضخم بغياب الإنتاج”، واستشهد محمد بمقولة للاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل عام 1976 مفادها “التضخم هو دائما وأينما وُجد، ظاهرة نقدية بالنظر إلى أنه ينتُج عن زيادة في كمية النقود تفوق زيادة الإنتاج، وأنه لا يمكن أن يكون نتيجة لغير ذلك”.

وأوضح محمد أن ارتفاع معدل التضخم يولّد مستوى من عدم اليقين، وزيادة عدم اليقين يسبب انخفاض النشاط الاقتصادي الحالي وانخفاض الإنتاج مستقبلاً، والنتيجة النهائية انعكاس ذلك على أسعار السلع والخدمات في ظل محدودية الموارد الفردية وتتأثر أغلب السلع بغض النظر عن مرونتها السعرية.

وأضاف محمد أنه في ظل تدني القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع الأسعار المستمر وعدم استقرار الوضع الاقتصادي نتيجة تراكم عوامل الأزمة والحصار والعقوبات وسواها، بات من الضروري البحث عن مخرج للأزمة الاقتصادية التي يعانيها المواطن في جميع جوانب حياته، ولعل أهم ما يجب العمل عليه حالياً هو إطلاق العملية الإنتاجية الصناعية والزراعية الحقيقية وفق رؤية واضحة ومخططة.

الأرقام تؤكد

وركز محمد على أن إطلاق العملية الإنتاجية ضرورة اقتصادية ملحة منذ سنوات وليس الآن فحسب، فعندما نجد أن الميزان التجاري السوري قد سجل خسائر في العام 2019 بنحو 5 مليارات يورو، وأن المستوردات قد بلغت 6 مليارات يورو بينما لم تبلغ الصادرات سوى 525 مليون يورو في العام 2019، وكذلك خاسر في العام 2022 بنحو 3.2 مليار يورو، فهذا لوحده كفيل بالمسارعة إلى إقلاع العملية الإنتاجية.

ركن منسي

لا يقودنا كلام محمد إلى التركيز على الإنتاج فحسب، بل يقودنا إلى إعادة التصدير كركن اقتصادي بات شبه منسياً أو ملغياً من قاموس قطاع الأعمال، لاسيما إذا ما علمنا أن ضعف الطاقة الإنتاجية السورية بات واضحاً جداً وتأثيره سلبي للغاية، مترافقاً مع هروب رؤوس الأموال إلى الخارج وضعف تنافسية المنتج السوري في الأسواق الدولية، وهذا العجز يعد أحد أسباب ارتفاع المستوى العام للأسعار المتتالي في سورية وتقلص الاحتياطي من القطع الأجنبي وأثره السلبي في الليرة السورية.

سياسة صحيحة

اعتمدت عديد الدول ولاسيما المجاورة منها، سياسة دعم التصدير التي أثبتت نجاحها بغزو الأسواق، غير أنها في بلادنا لا تزال مشوهة إن صح التعبير، إذ يُحمّل بعض الصناعيين تناقض القوانين والتشريعات وعدم تناغمها -في كثير من الأحيان- وزّرَ هذا التشويه، ما يجعل المنتج السوري يواجه صعوبة بالغة بالصمود أمام المنتجات الأجنبية والعربية مبدين خشيتهم من احتضار المنتج السوري، فلا يجوز – على سبيل المثال – أن ندعم الصادرات ونعيق بطريقة ما الصناعة، لذلك لابد أن تكون جميع القوانين في حزمة واحدة لدعم التصدير والصناعة ورفع القدرة التنافسية لمنتجاتنا، مستدلين بذلك بأن أسعار المواد الأولية في دول الجوار أقل منها في سورية، كما أن النسب الجمركية في بلادنا أعلى من مثيلاتها في دول الجوار والدول المنافسة وبناء عليه لا يمكننا الصمود والمنافسة.

أخيراً

نعتقد أن أبرز ما يستوجب على قطاع الأعمال عموماً، ومجلس الأعمال السوري الصيني خصوصاً، الاشتغال عليه في ظل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع الصين، هو توسيع رقعة الصادرات السورية إلى الصين لاسيما الزراعية منها كبعض أصناف الفواكه غير المنتجة في الصين، إضافة إلى اليانسون والكزبرة اليابسة وحبة البركة وورق وصابون الغار، والجلود والصوف وأمعاء الخاروف لتصنيع الخيوط الطبية، ونأمل أن يثمر اللقاء الأخير لوزير الاقتصاد مع هذا المجلس عن تذليل عقبات انسياب المنتجات السورية إلى الصين، كإيجاد طريقة لتحويل الأموال عن طريق البنوك أو شركات الصرافة النظامية، وتخفيض تكلفة المنتج السوري وجعله أكثر تنافسية في الأسواق الصينية، وإنشاء مكتب مشترك سوري صيني من خلال رجال الأعمال، يقوم بحل مشاكل تحويل الأموال والسعي إلى إقامة مذكرات تفاهم بين الجانبين حول تصدير المنتجات والمواد الغذائية، إضافة إلى إنشاء منطقة حرة سورية صينية، والمشاركة بالمعارض التخصصية في الصين والترويج للمنتج السوري، وإقامة استثمارات مشتركة سورية صينية للزراعات التعاقدية بهدف تصدير المنتجات الزراعية إلى الصين، ومخاطبة شركات الشحن البحري الصينية لإعادة تشغيل خطوطها باتجاه سورية والعكس ما يسمح بالتصدير المباشر عبر الموانئ السورية، وتشجيع المصدرين على التصدير عبر شهادات المنشأ السورية ومنحهم حوافز تفضيلية وتشجيعية.