في هذا الفضاء الرحب لأموال الموازنة .. من أين لنا هذا كله ..؟ وهل صدقت نبوءة المعلم بانفراج اقتصادي ..؟!

485

شارع المال|

رقم مفاجئ جداً ذلك الذي أعلنه بالأمس المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي والذي ترأسه المهندس حسين عرنوس رئيس مجلس الوزراء، عن الاعتمادات الأولية لمشروع الموازنة العامة للدولة وتوجهات الإنفاق في جميع الوزارات للسنة المالية 2021 والذي يصل إلى 8500 مليار ليرة سورية في الشقين الاستثماري والجاري مقارنة بـ 4000 مليار لموازنة عام 2020.

فضاءٌ رحب توحي به هذه الأموال الهائلة، فلأول مرة تحدث مثل هذه القفزة الجريئة بمثل هذا التصاعد الكبير في حجم الموازنة بين عام وآخر، فموازنة الدولة لعام 2019 كانت 3 تريليون و 882 مليار ليرة، لتزداد في عام 2020 بمبلغ 118 مليار ليرة فقط.

أما في عام 2018 فكانت الموازنة 3 تريليون و 187 مليار ليرة أي أن موازنة عام 2019 لم تزد عنها سوى 695 مليار ليرة، وهذا المبلغ الإجمالي للموازنة العامة لعام 2018 كان يزيد على موازنة عام 2017 بمبلغ 527 مليار ليرة سورية وبنسبة زيادة قدرها 19.81 % .

هكذا هو المعتاد أن تزيد الموازنات عن بعضها من عام لآخر بين 15 إلى 25% أما هذا العام فنراها وبكل جرأة لا تزيد بل تقفز فعلاً إلى أكثر من 100% عما كانت عليه .. !

ومع ذلك فإن هذه الجرأة لم نرها منعكسة بشكلٍ جريء على بعض القضايا التي طالتها الموازنة وتعتزم معالجتها ومن أبرزها قضية البطالة، ولكن قبل الخوض في هذا المجال لا بد من محاولة البحث عن الطريقة التي استطاعت الحكومة من خلالها القفز بحجم الموازنة إلى هذا القدر.

من أين لنا هذا كله ..؟!

في الواقع من خلال ما نرى ونسمع .. وما نقاسي ونعاني حتى صار الواحد منّا يُطربُ للحديث مع حاله بسبب الارتفاع المذهل وغير المسبوق للأسعار، وبسبب مختلف الأزمات المتراكمة والتي تطوّق حياتنا متراكضة وراء بعضها ولم نعد قادرين على الإفلات من طوقها، فإن أفلتنا من واحدة سرعان ما تُمسك بنا الأخرى، فنحن مطوّقون فعلياً بأزمة كهرباء، وأزمة بنزين، وأزمة مازوت، وأزمة غاز، وأزمة خبز، وأزمة دواء، وأزمة مياه، وأزمة نقل، وأزمة سكن، وأزمة غلاء وجنون أسعار، وأزمة تضخم، وأزمة بطالة، وأزمة فساد، وأزمة روتين، وأزمة بيروقراطية، وحتى أزمة أنترنت، وأزمة حرب، وأزمة حصار وحرمان .. وغيرها الكثير .. تهريب .. هجرة .. وما إلى ذلك .. !

إذن من خلال ما نرى ونسمع وعبر ما نعانيه ونقاسيه فمن غير المعقول ومن غير الممكن أن تكون الأجهزة الحكومية بمختلف القطاعات قد تمكنت في هذا العام من تحقيق واردات غطت فيها حجم موازنة العام 2020 والبالغة 4000 مليار ليرة، لا من حيث الإنتاج الذي ما يزال ضعيفاً، ولا من حيث الاستثمارات المتراجعة، ولم نرَ تلك الثورة التصديرية، كما أن الجبايات ليست بذلك القدر المدهش، فمن أين جاءت هذه العزيمة ..؟ وهذا الإغداق المالي كله حتى لا نبقى عند حدود موازنة العام 2020 أو زيادة نحو 20% عليها ونقتحم كل التوقعات لنزيدها بهذا القدر العالي الذي تجاوز عتبة ألـ 100% ..؟!

هناك ثلاثة احتمالات تبدو هي الأبرز لأن تكون مصادر المال الذي يغطي حجم الموازنة لعام 2021 :

الأول :

أن يكون لدينا احتياطات عالية من الذهب أو من القطع الأجنبي المحفوظ والمخبأ بما يتيح لنا طباعة أو إصدار الأوراق النقدية الوطنية الكافية لتغطية هذا الحجم، وفي الحقيقة هذا أمرٌ مستبعد على الأرجح، فلا شيء في الظاهر يشير إلى ذلك.

الثاني :

أن نكون قد تلقينا مساعداتٍ أو قروضاً خارجية، أو خطوط ائتمان مع بعض الدول الصديقة، وهذا وارد، وربما كانت تطمينات السيد وليد المعلم وزير الخارجية في مؤتمره الصحفي مؤخراً الذي عقده في دمشق مع يوري بوريسوف نائب رئيس الوزراء الروسي، وسيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية، تصب في هذا المنحى، حيث أشار المعلم إلى أن الأشهر القليلة القادمة ستشهد تحسناً في الوضع الاقتصادي العام ونحن متفائلون، فيما قال بوريسوف بكل صراحة : ( نعمل على كسر الحصار عن سورية ) فهذا أمر وارد ولكن لا ندري إن كان يصل إلى مثل هذا الحجم أيضاً، مع الإشارة إلى أن روسيا ليست الصديقة المخلصة الوحيدة لسورية من بين دول العالم .

الثالث :

أن نكون قد جازفنا وقمنا بطباعة أو إصدار كميات ضخمة من الأوراق النقدية بلا رصيد، وبالتالي تغطية الموازنة على مبدأ التمويل بالعجز .. وإن كان الأمر كذلك فمردوده سيكون وخيماً علينا تضخماً وارتفاعات جديدة وحادّة في الأسعار وتراجع لقيمة الليرة وازدياد الحالة المعيشية سوءاً. وهذا الاحتمال لانعتقد أنه خيارفي ظل سياسة متوازنة ظلت البلاد مصرة عليها رغم الحرب

وربما تكون هناك ممازجة بين الحالتين الثانية والثالثة، فتكون الأحوال أقلّ سوءاً بكثير.

كرمٌ ناقص .. وجرأة متردّدة

إن حجم الجرأة الكبيرة في إعداد أرقام الموازنة العامة للدولة لعام 2021 لا تنسجم في الحقيقة مع بعض الجوانب الهامة التي تستهدفها هذه الموازنة، ولاسيما قضية البطالة، فقد تضمن مشروع الموازنة استقطاب 70 ألف فرصة عمل في القطاعين الاقتصادي والإداري، وهذا رقم قليل جداً قياساً بجيوش القادمين إلى سوق العمل سنوياً، والذي لا يقل عددهم – حسب بعض التقديرات – عن 300 ألف شخص، وهذا غير الرصيد المتراكم ( والمزمن ) لمئات آلاف العاطلين عن العمل، وقليل جداً أيضاً أمام الحجم المتواضع للاستثمارات الجديدة، فهي غير محفّزة على مزيد من الآمال لاستقطاب فرص عملٍ يمكن البناء عليها.

في الواقع يمكن للموازنة أن تستقطب 300 ألف فرصة عمل بسهولة وبساطة، لأن 70 ألف فرصة عمل ستكلف الدولة رواتب بحدود 40 مليار ليرة سورية على أساس وسطي الراتب 50 ألف ليرة، وهذا مبلغ بسيط جداً من الحجم الهائل للموازنة 8500 مليار ليرة ..! ولذلك ليست مشكلة أن يرتفع هذا الرقم إلى / 180 / مليار ليرة سورية سنوياً هي حجم رواتب 300 ألف موظف وعامل جديد وأيضاً على أساس وسطي الراتب 50 ألف ليرة، وبالفعل هذا رقم عادي جداً بالنسبة لحجم الموازنة الضخم، ومن هنا رأينا أن هذا التردد في استقطاب كم أكبر من العاطلين عن العمل، لا ينسجم إطلاقاً مع الجرأة المنظورة في تحديد رقم الموازنة.

آمال قيد الانتظار

على كل حال تبقى هناك آمال أخرى يمكن البناء عليها إن تحققت، فمثلاً إن نجحت الحكومة في إطلاق المشاريع الصغيرة والمتوسطة كما يجب وينبغي – وقد أشارت في معطيات مشروع الموازنة إلى ذلك – وبشكل جاد هذه المرّة، فإنها ستتمكن بذلك من تحقيق قفزة نوعية باتجاه مكافحة البطالة، الذي يترافق في هذه الحالة مع المزيد من الإنتاج والانتعاش الاقتصادي وزيادة التشغيل وفرص التصدير والنمو.

أخيـــراً

إن إصدار هذه الموازنة وتطبيق معطياتها على الأرض – على ما يمكن أن نسجل حولها من ملاحظات – سيكون محكّاً حقيقياً لحكومتنا الجديدة التي لا نتمنى لها سوى الخير والنجاح، الذي إن حصل سينعكس علينا بالخير الوفير، فنجاحها يعني بالنهاية قدرتها على تحقيق المزيد من القضايا التي أتت عليها في بيانها الوزاري، والذي نتمنى أيضاً أن نغيّر رأينا به على أنه فضفاض ويقفز فوق الواقع .. وكان مجرد أحلام .. لنرى عندها أننا في يقظة حقيقية بعيدة عن أي حلم، وأن البيان كان منسجماً مع الواقع ومحاكياً له.. فلعلنا بذلك نكون قادرين على أن نتنفّس .. !

سيريا ستيبس – علي محمود جديد