“العقارات الفاخرة” متهمة بتطرف السوق العقارية!

443

شارع المال|

سرعان ما تنتاب المتتبع لكمّ التوسع العمراني، الناجم عن تسارع عمليات بناء المحاضر السكنية، هواجس حول مصادر الكتل النقدية الضخمة التي يتم ضخها في السوق العقارية، ولاسيما في ظل ضعف القوة الشرائية من جهة، وعدم شغل ما تستقبله السوق من وحدات سكنية جديدة بشكل مستمر، من جهة ثانية!
قد يعزو البعض هذا الأمر إلى الحوالات الخارجية القادمة من المغتربين، خاصة إذا ما علمنا أن قيمتها تقدر بحوالى 1.5 مليار دولار، وهو مبلغ كفيل بتحريك السوق العقارية بهذا الشكل، ويشكل بالنهاية ذخيرة لهم – أي للمغتربين – يستطيعون تسييلها متى شاؤوا. لكن لتجار السوق وسماسرته رأي آخر يفيد بأن هناك نسبة بسيطة من هذه الحوالات توظف في السوق العقارية، ولربما تكاد لا تصل إلى 10%، وفقاً لتقديراتهم، فأغلب هذه الحوالات يندرج ضمن سياق “إعالة الأسر”. كما ويدحض تجار السوق ما يشاع عن تأثير هذه الحوالات في السوق العقارية لجهة ارتفاع الأسعار خلال هذه الفترة!
جدل..!
إذا ما اعتمدنا مبدئياً رأي هؤلاء التجار – في ظل غياب الإحصاءات الرسمية بهذا الخصوص – تبقى هناك نسبة الـ90% التي تفتح المجال لاحتمالات عدة حول مصدر ما يوظف من كتل مالية هائلة في القطاع العقاري، ما بين معاودة النشاط الطبيعي لتجار البناء – كما كان عليه سابقاً – بعد تحسن الأوضاع الأمنية في عدد من المناطق، خاصة المتاخمة لدمشق وريفها، أو توجيه المدخرات نحو السوق، أو أن الأمر مرتبط بتوسع طبقة تجار الأزمة ممن يجدون بهذه السوق ملاذاً لتبيض أموالهم!
اعتبارات منطقية!
وثمة اعتبارات عدة ترجح الاحتمال الأخير، أبرزها أن أغلب صفقات البيع تخضع بشكل ملحوظ لمزاجية البائع الذي يفرض ما يرغب من سعر، مقابل مسارعة الشاري لقبول العرض، خاصة أن الأخير قد يشتري أكثر من وحدة سكنية، أو محل تجاري، وبأسعار تعتبر فلكية مقارنة مع انخفاض القدرة الشرائية ومستوى الدخل الحالي، خاصة وأن بعض المصادر الحكومية أكدت أن تدفق الحوالات الخارجية إلى القطر لا يزال ضمن المعدل، أي بحدود 7 ملايين دولار يومياً كحد أقصى، ما يعني أن أي طارئ لم يستجد في هذه الحيثية بالذات، ما قد يشي بتحرك أموال طبقة تجار الأزمة نحو السوق العقارية، في محاولة منهم لإعطاء الصبغة الشرعية لأموالهم؛ وتظهر هذه الحركة ضمن سياقين: يتعلق الأول – كما أسلفنا – بالتوافق شبه الفوري لعدد من الصفقات التي تتم بين البائع والشاري، وعدم إبداء الأخير أية ممانعة فعلية لأي سعر يفرضه الأول، وبالتالي إبرام الصفقة بموجب سعر مرتفع يصبح معتمداً في السوق، ويرتبط السياق الثاني بازدياد وتيرة البناء بشكل ملفت للغاية لا يتناسب مع القدرة الشرائية العامة، لكنه يعكس في الوقت ذاته ارتفاع معدل ضخ الكتل المالية في هذه السوق، ما يخلف بالنتيجة مئات الآلاف من الوحدات السكنية الخالية!
بقيت بمنأى!
المثير في هذا المشهد، حقيقةً، هو العقارات الفارهة التي بقيت – على ما يبدو – بمنأى عما آلت إليه السوق العقارية، وما أصابها من اهتزازات، سواء خلال فترة الأزمة، أم قبلها، ما يؤكد أنها خارج إطار تجاذبات السوق العامة، وأنها تخضع لبورصة مخملية خاصة بكبار المستثمرين، ممن يعتبرون امتلاك المنزل الفخم ضرباً من البرستيج الاجتماعي، ومؤشراً على مدى الملاءة المالية لدى مالكه، وليس حاجة ضرورية وملحة، حسب ما هو متعارف عليه لدى بقية الفئات، وبالتالي لا يدخل في معادلة العرض والطلب في معظم الأحيان، لأن ملّاك هذا النوع من العقارات لا يشترونها بغية المتاجرة بها وارتفاع أسعارها لاحقاً، وإنما بهدف “المباهاة” بها اجتماعياً في حفلاتهم وولائمهم الخاصة، أو أنها تندرج ضمن سياق “تبييض الأموال”، بشكل أو بآخر. وهنا، يؤكد بعض أصحاب المكاتب العقارية أن عرض العقارات الفارهة (شقق سكنية – مزارع – فلل) أكبر من الطلب، ورغم ذلك لا يصرّ معظم أصحابها على بيعها، أو يتهاونون بسعرها، لعدم اضطرارهم للبيع وامتلاكهم السيولة المناسبة لتسيير أعمالهم؛ وفي حال حاجتهم الماسة للسيولة، يتوجهون لتسييل جزء مما يمتلكونه في البورصات العالمية؛ وإن بيع عقار من هذا النوع فغالباً بهدف إنشاء مشروع استثماري يحتاج إلى سيولة كبيرة.
مهجورة ولكن..!
ربما لا يخفى على المتجول في أحياء المزة أتوستراد، أو أبو رمانة، أو المالكي، أو كفرسوسة، أو غيرها من هذه المناطق، ملاحظة خلو نسبة كبيرة من مساكنها، لدرجة أنه ينتاب البعض شعور بأنها مهجورة؛ وهنا يوضح صاحب مكتب عقاري آخر أن أصحابها إما أنهم مغتربون خارج القطر، ولا يرتادونها إلا في بعض المواسم والأعياد الخاصة، أو أنهم يقطنون في مزارعهم المنتشرة بضواحي العاصمة وأطرافها. وتَنَدّرَ صاحب المكتب، بأسلوب لا يخلو من الجدية، قائلاً: “بعضهم لا يعرف ما يملك من شقق سكنية”، فكثير منها مسجل بأسماء أولادهم وزوجاتهم وذوي القربى لاعتبارات تتعلق بالضريبة وما شابه.
وحول تأثير الأزمة على هذه العقارات، بيّن صاحب المكتب أنه محدود جداً نظراً لامتلاك معظم مالكيها أصولاً عقارية في بلاد الاغتراب تغنيهم عن بيع ما يمتلكونه محلياً، وإلى جانب أنها موجودة في المناطق الآمنة، فلا يستطيع أي طالب للسكن حتى مجرد التفكير بشرائها، نظراً لأسعارها الفلكية، فهي مخصصة فقط لأعضاء نادي الأثرياء إن صح التعبير.
خمس نجوم..!
في سياق متصل، يؤكد تاجر عقارات في ريف دمشق أن فلل يعفور والصبورة ترتقي إلى مستويات عالية من الفخامة والإبداع العمراني، بحيث تلبي رغبة الشريحة المخملية لقاطنيها، لدرجة أنها تغنيهم عن الإقامة بفندق خمس نجوم؛ ويشعر هؤلاء أنهم في رحلة استجمام دائمة، كونها مجهزة بجميع مستلزمات وأغراض الراحة والرفاهية، ومع ذلك نجد أن لمعظم ملاكها شققاً فاخرة في أحياء دمشق الراقية، وربما امتدت حيازاتهم السكنية إلى ما وراء البحار، فكثيراً ما نسمع عن تملك رجال أعمال سوريين لفلل وشاليهات في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها من دول العالم، مؤكداً أننا لا ننظر إليهم بعين الحسد – على الأقل عملاً بالمثل الشعبي المعروف “لكل مجتهد نصيب” – ولكن، ألا يحق لنا التساؤل هنا عن الكتل النقدية المجمدة في هذه القطاع دونما تحقيق قيم مضافة كان يمكن الحصول عليها فيما لو وظِّفت في قطاعات إنتاجية، لاسيما إذا ما علمنا أن سعر الفيلا يصل إلى مئات الملايين؟ أو لو تم استثمارها في القطاع نفسه لبناء ضواحي سكنية من شأنها المساهمة بحل مشكلة السكن؟
قد لا نبالغ إن حملّنا أصحاب هذه العقارات الفاخرة مسؤولية تطرف سوقنا العقارية، ولو بشكل غير مباشر، نظراً لتكريسهم – ولو بغير قصد – قاعدة “العقار هو الملاذ الآمن للحفاظ على السيولة” على اعتبار أن قسماً منهم يوظف جزءاً من أمواله في هذا المجال، تخوفاً من أزمات محتملة ولو بعد حين، والقسم الآخر يحوِّل إيرادات أعماله إلى أصول عقارية فاخرة، بدلاً من توسيع استثماراته، ليصل الحال ببعض رجال أعمالنا إلى التركيز على المضاربة بالعقار على حساب الاستثمار في القطاعات الأخرى، الخدمية منها والإنتاجية. وليس هذا وحسب، بل إن كثيراً ممن يملكون محاضر أو أجزاءً منها يبقونها على أمل ارتفاع الأسعار أكثر وأكثر، وتكون المحصلة الإخلال بمشهد قطاع أعمالنا الذي يفضل رواده الظهور، وبكامل برستيجهم الاقتصادي والاجتماعي، وكأنهم صناع اقتصادنا الوطني، في حين استثماراتهم الحقيقية تملأ الدنيا تحت مسميات أجنبية برّاقة!
سلعة من نوع خاص!
لاشك أن العقارات – مثلها مثل أية سلعة – تخضع لآلية العرض والطلب، لكن لها خصوصية معينة، وهي أنها تعتبر في رأس أولويات اهتمام الإنسان وخاصة الشباب. لكن واقع حال عقاراتنا لا يمتثل لمبدأ العرض والطلب في كثير من الأحيان، وإنما لاعتبارات مردّها الممارسات الاحتكارية التي لا علاقة لها بالتكلفة، وإنما بمزاجية العارضين، فأسعارها تزيد عشرات المرات عن سعر التكلفة مهما ارتفع سعر الأرض، الأمر الذي أصبح يتطلب تدخل الدولة لأن آثاره الاقتصادية والاجتماعية سيئة للغاية على حياة السواد الأعظم من شبابنا، حيث أن السكن كان ولا يزال أزمة حاضرة في حياتهم بلا منازع؛ وكأن قدرهم أن يعيشوا، هم وآباؤهم وأبناؤهم، وحتى أحفادهم، أزمتها العصية على التغيير، مع الإشارة هنا إلى بعض المحاولات الحكومية لكسر حدة السوق لم يكن لها أي أثر يذكر، ومنها قانون التطوير العقاري ودخول الشركات العقارية الاستثمارية، والتي لا تزال كل مشاريعها حبراً على ورق، بعد أن سرت موجة من التفاؤل قبيل إحداثها ككيان مؤثر في السوق العقارية يعمل على ضبط الأسعار واستقرارها من خلال تأمين وحدات سكنية جديدة من شأنها كسر حدة الاحتكارات وتوفير المعروض المناسب وبالسعر المناسب. ولعل إزالة العشوائيات، وتحويلها إلى مناطق تطوير عقاري ذات أبعاد حضارية واجتماعية راقية، كانت الأمل الأكبر من عمل “هيئة التطوير العقاري” وشركات التطوير، لكن شيئاً من هذا لم يجسد على أرض الواقع، لأسباب عزاها بعض المراقبين إلى عدم جدية الشركات نتيجة افتقارها للملاءة المالية المطلوبة لمثل هذه المشاريع من جهة، وعدم قيام “الهيئة” بالدور المنوط بها نظراً لقصور قانون لتطوير العقاري من جهة أخرى، في المقابل اعتبر البعض الآخر أن المسألة تحتاج إلى وقت كافٍ حتى تقلع الشركات بأعمالها كون التجربة جديدة في سورية، ولا يخلو الأمر بالتالي من تعقيدات الروتين والبيروقراطية التي تحكم طرح مناطق للتطوير العقاري، خاصة تلك المتعلقة ببعض جهاتنا الرسمية ووحداتنا الإدارية!
مجهولة المعالم!
في المقابل يخشى بعض التجار الخوض كثيراً في غمار تجارة العقارات، لأن وجهة السوق لا تزال مجهولة المعالم، حيث أوضح أحدهم أنه في وقت يأمل البعض تحقيق أرباح هائلة مستفيدين من حالات البيع الاضطراري، فإن المؤشرات تدل على احتمال الوقوع في خسارات هائلة، خاصة بعد توقف كثير من المشاريع الاستثمارية العربية والمحلية، ما ينذر بتوقف عجلة النمو الاقتصادي بشكل عام والعقاري بشكل خاص، مضيفاً أنه ومع تدني القدرة الشرائية وارتفاع أسعار السلع والمواد، وحتى الخدمات، يشهد العقار أزمة خانقة في ظل التفاوت بين العرض والطلب في معظم المحافظات، فالضغوط تتزايد على هذا القطاع، ما أدى إلى تجميد كثير من التجار لأعمالهم خاصة تلك المتعلقة بالبناء ريثما تتضح الصورة!
ما سبق يحتم ضرورة ملامسة المشاكل الحقيقية لأسباب ارتفاع الأسعار قبل وضع الحلول من باب تشخيص المشكلة قبل علاجها. ويمكن القول أن أسباب ارتفاع الأسعار تتجلى في عدم قدرة العرض على مواكبة الطلب‏‏‏، وتحكم المحتكرين بالسوق العقاري وفرضهم الأسعار التي يرغبون بها تحت دواع وحجج متعددة، منها سعر الأرض، وهي حجة غير مقنعة كون تجار العقارات هم أنفسهم المتحكمون بأسعار الأراضي، إضافة إلى أن سعر الأرض يتوزع على مساحة طابقية قد تصل إلى عشرة طوابق، في كل طابق ثلاث أو أربع شقق، إلى جانب أنه يمكن التوسع في أراض غير زراعية، وإقامة أحياء وضواحٍ سكنية بمجرد تخديمها.
“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي